هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 العلامات الداميه (تمهيد)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
زائر
زائر




العلامات الداميه (تمهيد) Empty
مُساهمةموضوع: العلامات الداميه (تمهيد)   العلامات الداميه (تمهيد) I_icon_minitimeالأحد فبراير 15, 2009 6:18 pm

العلامات الداميه






تمهيد ‏
منذ العام 1960 لم يستيقظ عم ( جلال ) لصلاة الفجر .. وهذا لسبب بسيط ‏جدا هو انه لم ينم قط قبلها ..‏
في ذلك الشارع الضيق الصغير كان الضوء الوحيد ينبعث من بقالته ، ‏وكان هو المكان الوحيد في العالم بالنسبة لسكان الشارع على الأقل الذي ‏تستطيع ان تبتاع منه علبة سردين او شاي او تبغ بعد الثانية صباحا ..‏
إنه مكان دافئ آمن يشبه الفنار للسفن الضالة .. هناك سوف تقترب لتجده ‏جالسا وسط المحل بين البضائع ..‏
موقد الكيروسين بدفئة الجميل وصوته العذب في ليالي الشتاء . والبطانية ‏على كتفيه وصوت ( أم كلثوم ) ينبعث من ذلك المذياع العتيق المربوط ‏بالحبال ..‏
سوف تقف عنده متلذذا بذلك الشعور : ظهرك يرتجف من الصقيع ‏ووجهك ينعم بالدفء .. شعور يبعث فيك القشعريرة مع رغبة عارمة في ‏ان تدخل لتنام بالداخل ، لكن هذا مستحيل لأن المحل ضيق جدا .. وقد ‏رتب هو كل شيء بحيث لا يضطر الى النهوض ابدا ..‏
لكن بقالة عم ( جلال ) من الموضع النادرة في العالم التي تجعلك تشعر ‏بأن الحياة تستحق ان نحياها .. وقد قالت زوجة من ساكنات الشارع :‏
‏-‏ ‏" لو صحوت يوما فوجدت ان هذا الرجل مات ، لشعرت بان العالم ‏قد انهار .. "‏
‏-‏ الرجل نفسه عجوز باسم لم يترك مرضا في كتب الطب الا اتخذه ‏لنفسه كما يقتني هواة النفائس مقتنياتهم ، والى حد ما كنت تشعر ‏بانه يفخر بأمراضه هذه .. انه يحدثك باعتزاز عن النقرس ويحدثك ‏بفخر عن الروماتزم ويحدثك بكبرياء عن داء السكري .. ولو كان ‏ذا ثقافة طبية لاتخذ مرضا غريب الاسم مثل ( التهاب الحيزوب ) او ‏‏( الانسكاب البلوري ) ليضمه لمجموعته ..‏
‏-‏ هكذا يظل الرجل في متجره وحيدا لا تعرف فيما يفكر ولا أية ‏ذكريات يجترها ، ثم يتعالى صوت الأذان من زاوية قريبة فينهض ‏‏.. معجزة ان تراه ينهض كأنك ترى احد ديناصورات ( راي هارى ‏هاوزن ‏Haussen ‎‏) المتخشبة في أفلامه القديمة .. حتى توشك ان ‏تبكي تأثرا لرؤية هذه المعجزة ..‏
‏-‏ إنه يغلق المتجر .. يمشي الى المسجد وهو يردد الأدعية بصوت ‏خفيض .. يؤدي الصلاة ثم ينصرف الى داره .. إنه يعيش بلا ولد ‏مع زوجة عجوز مثله في شقة ضيقة بذات الشارع ..‏
هكذا لن تراه ثانية إلا بعد صلاة الظهر ..‏
أعترف أنني كنت أهيم حبا بهذا المتجر وهذا الرجل .. ‏
بالنسبة لوطواط حقيقي مثلي كنت بحاجة الى شخص مثله ..‏
وهكذا كنت أحيانا استقل سيارتي وسط شوارع المدينة المظلمة الغافية ‏حتى اصل الى هذا الشارع .. وهناك أتوقف عنده وأبتاع شيئا او شيئين ‏لا حاجة لي بهما ، وأتبادل معه كلمات عن ( أم كلثوم ) وعن البرد ‏وعن داء السكري .. لا بد من ان يسألني عن دواء ما لشيء ما ، ‏فأكتبه له على قصاصة ورق .. وانا اعرف يقينا انه لن يبتاع هذا ‏الدواء وأن القصاصة ستضيع خلال خمس دقائق .. ‏
أرمق بشفقة وجهه العجوز الطيب المريض ، ويخطر لي ان هذا الرجل ‏كان طفلا يوما ما وكانت له ام تعلمه المشي وتبدل ثيابه .. كان شيئا ‏نضرا عزيزا . أما اليوم فموته حدث مؤسف لا أكثر . سوف ننساه بعد ‏دقائق ..‏
احيانا كنا نتبادل السعال لا اكثر ، اعترف ان هذه كانت من أعمق ‏المحادثات التي سمعتها في حياتي ..‏
احاينا كنت اقف صامتا لأصغي في تهيب لصوت موقد الكيروسين الذي ‏اعتقد انه يجب ان يضم الى السيمفونيات العالمية .. وأداري اسئلة ‏عديدة .. من اين يبتاعون هذا الاختراع الساحر ؟ كيف يشعلونه ؟ من ‏اين يبتاعون الكيروسين وانا لم ار بائع كيروسين في شارعنا منذ 86 ‏سنة ؟
ثم انصرف وانا اتنهد .. نعم .. اعترف انني احب هذا الرجل بجنون ..‏
‏*** ‏
في ذلك اليوم نهض الرجل كعادته ليقصد المسجد ..‏
اغلق المتجر .. وبدأ زحفه البطيء المتثاقل الى الزاوية في نهاية ‏الشارع .. هناك منعطف بعدها يصل .. والطقس بارد يجعله يلتف اكثر ‏بذلك المعطف الصوفي العتيق ويحكم التلفيعة أكثر حول عنقه .. إنه ‏يتوضأ في المتجر دوما بماء قام بتدفئته لأنه لن ينزع هذه البطانية أبدا ‏إلا في داره .. ‏
لنا الآن ان نتصور الشارع الضيق الصموت .. هناك كلب ضال او ‏كلبان يلتهمان شيئا في لفافة تخلص منها أحد الجيران .. ثم يعوي قط ‏في مكان ما وقد أصابه الهلع فتنطلق الكلاب كالبرق خلفه ..‏
إضاءة عامود النور الخافتة .. المتاجر والمطعم التي تعج بالصخب ‏صباحا وهي الآن غافية كالبشر تماما ..‏
جو يثير الخيال لكن من قال إن عم ( جلال ) يملك أي قدر من الخيال ؟ ‏مناخ يبعث التوجس .. لكن من قال إن الرجل يخشى شيئا ؟ من يرد ‏شيئا من رجل عجوز مثله فيفعل .. لو قتلوه لاختصروا عذاب ‏الشيخوخة .. ولو سرقوه فلا يعنى هذا اكثر من ضياع جهد يومين ..‏
هكذا يواصل مسيرته التي تستغرق عدة قرون نحو المنعطف ..‏
ولكن ما هذا الصوت ؟ هل هي بومة؟ ‏
إ ج ج ج ج ت ت ت و و و ش ش ش ش ش ش !!‏
لا .. ليست بومة .. إنه اقرب الى صوت شخص يئن .. لكن من الذي ‏يصدر صوتا كهذا عندما يئن ؟ ‏
إ ج ج ج ج ت ت ت و و و ش ش ش ش ش ش !!‏
إن اصوت يأتي من مدخل تلك البناية العتيقة التي تحرس زاوية ‏الشارع .. بناية من طابقين نخرين لا يميزها شيء .. لكن الصوت ‏يخرج منها بالذات ..‏
هكذا اقترب أكثر ونظر عبر المدخل بعينين لا تريان ..‏
وهتف بصوته الواهن : ‏
‏-‏ ‏" يا أهل الله !" ‏
لا احد يرد ..‏
عبث في جيب المعطف حتى وجد علبة الثقاب .. يحملها معه دائما ‏برغم انه لا يدخن .. لأنه يشعل سجائر الزبائن الذين يقفون يثرثرون ‏معه .. شليك ! اشتعل العود ..‏
وعلى الضوء المتراقص مد عنقه يتفحص المدخل .. سلحفاة عجوز ‏تطل من درقتها في شك ..‏
وعلى الفور أدرك انه يرى لك السد الراقد على الأرضية .. جد بشري ‏تحيط به بركة صغيرة من الدماء .. ودنا أكثر وقلبه يتواثب بين ‏ضلوعه فرأى المشهد بشكل أوضح لكنه لم يتبين شيئا ذا بال .. عندما ‏نخاف لا نبصر التفاصيل .. فقط نأخذ انطباعا عاما ..‏
ونظر الى الجدار فوجد ان الدم قد تناثر عليه ..‏
وفي ضوء اللهب الراقص استطاع ان يقرأ كلمة كتبت بالدم وبوضوح ‏شديد : ‏
عباس ‏
عند هذه اللحظة كان قلبه قد تحمل الكثير جدا .. إنه ذلك الأمل العاصر ‏الذي يجتاح عظمة القص ويتسلل الى كتفه اليسرى .. سقط العود من ‏يده ..‏
واستند الى الجدار شاعرا بالخطر ..‏
قلبه الذي تحمله خمسة وستين عاما يوشك على ان يعلن الإضراب ..‏
فتح فمه وأطلق بصوته الواهن أعلى انين استطاع ان يصدره ..‏



وهذا القاتل ـ ككل القتلة المتسللين في الواقع ـ يحب ان يترك شئا يدل ‏على خططه او يدل عليه .. نحن لم نعتد هذا الطراز من القتلة في مصر ‏، لكنهم في الخارج يعرفون هذه الأساليب جيدا .. لديهم مثلا ( زودياك ‏‏) الذي كان يرسل بطاقات لرجال الشرطة وم اإلى ذلك . . يقولون إنها ‏تتجاوز رغبة التفاخر الطفولي .. إنها رغبة مأسوشية في عقاب الذات ‏، ورغبة في أن يضبط .. أرى أنه يقدم بنفسه للشرطة الخيط الذي ‏يقود إليه .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
العلامات الداميه (تمهيد)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتديات الادبية :: منتدى القصص و الروايات-
انتقل الى: